محاذاة النص
حجم الخط
نبذة
أسباب توفيقه، ومن أسباب استقامته على طاعة الله، ألا وهو: المُراقبة لله في السرِّ والعلنجدول المحتويات
المقدم: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه، وَاسْتَنَّ بِسُنَّته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الأحبة الكرام، يَسُرُّ إدارة الشؤون الدينية بقيادة القوات البحرية أن تستضيف فضيلة الشيخ الدكتور: سعيد بن علي بن وهف القحطاني -عضو الدعوة والإرشاد بوزارة الشؤون الإسلامية- لِيُلْقِي علينا كلمةً توجيهيةً.
نسأل الله أن يُوفِّق الشيخ لكل خيرٍ، وأن يصرف عنه كل شرٍّ، وأن يجعل ما قدَّم وما يقول -إن شاء الله- في ميزان حسناته.
والآن نترك المكان للشيخ، فليتفضل مشكورًا، مأجورًا.
أهمية المُراقبة لله في حياة المسلم
الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها الإخوة، سأتكلم لدقائق معدوداتٍ -سبع دقائق أو أقلّ- حتى لا أُطيل عليكم، لكني أرجو الاستماع والإنصات لموضوعٍ عظيمٍ ينبغي لكل مسلمٍ -سواء كان المُتكلم أو غير المُتكلم- أن يُعْنَى بهذا الأمر؛ لأنه من أسباب سعادته في الدنيا والآخرة، ومن أسباب توفيقه، ومن أسباب استقامته على طاعة الله، ألا وهو: المُراقبة لله في السرِّ والعلن.
وصيةٌ جامعةٌ: اتَّقِ الله حيثما كنتَ
إذا علم المسلم ذلك، وعلم أن الله تعالى يراه، وأنه مُطَّلعٌ عليه، لا تخفى عليه خافيةٌ، وعلم وصية النبي عليه الصلاة والسلام بذلك حينما أوصى معاذًا حينما وجَّهه إلى اليمن، قال: اتَّقِ الله حيثما كنتَ، وأَتْبِع السيئة الحسنة تَمْحُها، وخالِق الناسَ بِخُلُقٍ حسنٍ[1].
الشاهد من هذا الحديث: حيثما كنت أينما كنت، في أي مكانٍ: في السماء، في الأرض، في البحار، في الليل، في النهار، في أي وقتٍ، في أي زمانٍ، فعليك أن تتَّقي الله وتعلم أنه يَرَاك.
إحاطة علم الله بعباده ومعيته لهم
لهذا بيَّن الله تعالى ذلك للناس في كتابه، وبيَّنه النبي عليه الصلاة والسلام؛ قال الله تعالى في هذا: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، معنى: وَمَا يَعْزُبُ ما يغيب، لا يغيب عن ربك، وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61]، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].
وقد قال تبارك وتعالى في هذا يُبيِّن للناس أنه معهم، وأنه يراهم، وأنه مُطَّلعٌ عليهم: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7].
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، لا تخفى عليه خافيةٌ يا عبدالله.
وصية لقمان في المُراقبة
قال لقمان لابنه -كما بيَّن الله تعالى ذلك في كتابه-: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16].
لو كانت خصلةٌ صغيرةٌ يسيرةٌ -سواء كانت سيئةً أو حسنةً- في أعماق البحار، أو في جوف الصخرة، أو في السماوات، أو في الأرض يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ، على كل شيءٍ قديرٌ .
أثر استحضار مُراقبة الله في تَرْك المعاصي
يا عبدالله، إن أردتَ التوفيق فعليك أن تعلم أنَّ الله يَرَاكَ في أي مكانٍ، فإذا أُغْلِقَت الأبواب، وأُرْخِيَت الأستار، وأُطْفِئَت الأنوار، فاعلم أنَّ الله مُطَّلعٌ على عبده، لا يخفى عليه شيءٌ.
ولهذا لو التزم الإنسان بالمُراقبة ما عصى ربَّه سِرًّا ولا عَلَنًا.
ولهذا بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمنٌ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمنٌ[2].
المعنى: أنه لو كان عنده إيمانٌ بالمُراقبة لله، وأن الله يراه، وأنه مُطَّلعٌ عليه؛ لا يمكن أن يعمل هذه الأعمال؛ لأنه يخشى من الله.
مُقارنة بين مُراقبة الخالق ومُراقبة المخلوق
الآن المسؤول من البشر، لو أراد إنسانٌ من الناس أن يُخالف أمر أميرٍ، أو أمر وليِّ أمرٍ، ومُخالفة وليِّ الأمر في طاعة الله لا تجوز، لكن لو أراد أن يُخالفه لا يستطيع أن يُخالفه، يخشى: إمَّا من الفصل، وإمَّا من العقوبة العاجلة في الدنيا، وغير ذلك، يُراقبه، يُراقب الإنسان!
ولهذا قال بعض السلف: "اسْتَحِي من الله كما تستحيي من الرجل العظيم في عشيرتك"، أو كما قال.
وهذا معلومٌ صحيحٌ: أنه يجب عليه أن يستحيي من الله حقَّ الحياء، لكن لو استحيى من الله كما يستحيي من رجلٍ عظيمٍ في قومه أو في قبيلته ما يمكن أن يعصيه.
فعليك يا عبدالله أن تعلم هذا، وعليك أن تعلم أنَّ الإنسان إذا راقب الله لا يمكن أن يعصي ربَّه.
من قصص السلف في المُراقبة
ذكر ابن رجبٍ رحمه الله تعالى في كتابٍ له اسمه: "كلمة الإخلاص" قصتين قصيرتين، مُفيدتين، عظيمتين، تدلَّان على أن الإنسان إذا راقب الله لا يمكن أن يعصيه.
ذكر أنَّ رجلًا كان قد دخل على امرأةٍ في بيتٍ واسعٍ، وأمرها أن تُغلق الأبواب، والأبواب كانت كثيرةً، فأغلقت الأبواب مُكرهةً -تحت السيطرة والقوة وهي ضعيفةٌ- ثم خشي أن تكون بعض الأبواب لم تُغلق، فقال: هل بقي من الأبواب شيءٌ؟ قالت: نعم، يبقى الباب الذي بينك وبين الله، أَغْلِقْه. أغلق الباب الذي بينك وبين الله، هذا الباقي؛ فهرب وتركها، وقد علم أنَّ الله يراه، وهذا يدل على أن أصل الإيمان في قلبه، لكنه أُنْسِيَ.
وكان رجلٌ آخر في بَرِّيَّةٍ -في صحراء- فوجد امرأةً في ظُلمة الليل، ولا يراهما أحدٌ إلا الله، فَرَاوَدَها عن شيءٍ حرَّمه الله، فامتنعتْ، فاستغرب وقال: ما يَرَانا إلا الكواكب. ما عندنا إلا النجوم، ما يرانا إلا الكواكب، فقالت: فأين مُكَوْكِبُها؟! الذي كَوْكَب الكواكب أين هو؟
ذكر بعض أهل العلم أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان ذاهبًا إلى مكة، وفي طريقه وجد عبدًا مملوكًا يرعى غنمًا، فأراد أن يشتري منه شاةً؛ اختبارًا، والعلم عند الله، لكن هذا الظن الذي يُظَنُّ بعبدالله بن عمر رضي الله عنهما؛ لأنه لا يمكن أن يعصي النبيَّ عليه الصلاة والسلام، ولا يُخالف أمر الله، ولكن لعله كان يختبره، فقال: بِعْنِي شاةً. قال: أنا مملوكٌ ولا أستطيع، لا أملك هذه الأغنام، وإنما هي لسيدي. قال: قُلْ لسيدك إذا رجعتَ إليه: أكلها الذئب. قال: فأين الله؟!
يعني: لو قلتُ: أكلها الذئب، فأين الله؟!
فبكى ابن عمر رضي الله عنهما، وقال: إي والله، فأين الله؟ ثم اشتراه وأعتقه.
انظر إلى المُراقبة لله التي أورثته الحرية بحيث يعبد الله تعالى رجلًا حُرًّا بعد أن كان كالحيوانات يُباع في الأسواق.
فعليك يا عبدالله أن تُراقب الله في السرِّ والعلن، وأَبْشِرْ بالخير، أَبْشِرْ بالتوفيق، أَبْشِرْ بالسعادة في الدنيا والآخرة؛ لأن الله يقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2- 3]، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
أسأل الله تعالى بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا أن يرزقني وإياكم المُراقبة لله تعالى في السرِّ والعلن، والعلم النَّافع، والعمل الصالح، والتوفيق لما يُحبُّه ويرضاه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.