تخطى إلى المحتوى

نبذة

واجبٌ عظيمٌ من الواجبات التي أوجبها الله تعالى على عباده، إذا قام به العبد كان من السعداء في الدنيا والآخرة، وإذا أهمل هذا الواجب وتركه فإنه يكون بهذا قد عصى الله تعالى وعصى النبي صلوات الله وسلامه عليه

... فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

فضل برِّ الوالدين وتعظيم حقِّهما في الشريعة

أما بعد:

أيها الإخوة، واجبٌ عظيمٌ من الواجبات التي أوجبها الله تعالى على عباده، إذا قام به العبد كان من السعداء في الدنيا والآخرة، وإذا أهمل هذا الواجب وتركه فإنه يكون بهذا قد عصى الله تعالى وعصى النبي صلوات الله وسلامه عليه.

ولا شكَّ أن هذا الواجب الذي بيَّنه النبي عليه الصلاة والسلام يجب على العبد أن يقوم به، ويجب عليه أن يبتغيَ به وجه الله تعالى؛ ابتغاء مرضاة الله، يرجو ثواب الله، ويخشى عقابه، وهذا الواجب هو: بِرُّ الوالدين، وصلة الأرحام.

قرن حقِّ الوالدين بحق الله تعالى

الوالدان من أعظم الحقوق حقُّهما على العبد؛ ولهذا قَرَنَ الله تعالى حقَّهما بحقِّه في آياتٍ كثيرةٍ: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23].

فلا شكَّ أن حقَّ الوالدين حقٌّ عظيمٌ قَرَنَه الله تعالى بحقِّه، وقَرَنَ عقوقَهما بالشرك بالله تعالى، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ولعلي أختصر الموضوع؛ حتى لا أُطيل على إخواني.

بِرُّ الوالدين من أفضل الأعمال

برُّ الوالدين من أفضل الأعمال، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام حينما سُئل: "أيُّ العمل أفضل؟"، قال: الصلاةُ لوقتها، قال: قلتُ: "ثُمَّ أيٌّ؟"، قال: بِرُّ الوالدين، قال: قلتُ: "ثُمَّ أيٌّ؟"، قال: الجهاد في سبيل الله[1].

فأفضل الأعمال بعد الصلاة: برُّ الوالدين، وهذا أمرٌ قد بيَّنه النبي صلوات الله وسلامه عليه.

رضا الله في رضا الوالدين

ولا شكَّ أن رضا الربِّ في رضا الوالدين، كما بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام: رضا الربِّ في رضا الوالد، وسَخَطُ الربِّ في سَخَطِ الوالد[2]، وهذا أمرٌ عظيم ينبغي للمسلم أن يعتنيَ به، وأن يعلم أن الوالد أوسط أبواب الجنة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئتَ فأضِعْ ذلك الباب أو احفظه[3]، كما بيَّن النبي صلوات الله وسلامه عليه.

وعيدٌ نبويٌّ لمن أدرك والديه في الكِبَر فلم يَبَرَّهما

ودعا النبي عليه الصلاة والسلام على مَن لم يَبَرَّ والديه، قال عليه الصلاة والسلام: رَغِمَ أنفُه، ثم رَغِمَ أنفُه، ثم رَغِمَ أنفُه، قيل: "مَن يا رسول الله؟"، قال: مَن أَدْرَكَ والدَيه عند الكِبَر -أحدَهما أو كِلَيْهما- ثُم لم يَدخُل الجنة[4]، أو كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه.

عجز الأبناء عن أداء حقِّ الوالدين مهما بذلوا

ولا شكَّ أن الإنسان لا يَجزي والده إلا إذا وجده مملوكًا فأَعْتَقَه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا يَجْزِي ولدٌ والدًا إلا أن يجدَه مملوكًا، فيشتريَه فيُعْتِقَه[5]. يجده يُباع ويُشترَى، فيشتريه ويعتقه، هذا جزاؤه، أما غير ذلك فلا يمكن أن يَجزيه.

وعليه أن يَعْلَمَ أن حقَّ الوالد كبيرٌ، ولو حَمَلَه على ظهره، ولو حَمَلَ والدته على ظهره إلى بيت الله الحرام؛ فقد كان رجلٌ من أهل اليمن يَحْمِل والدته على ظهره ويطوف بالبيت، ويقول:

إنِّي لها بَعِيرُها المُذَلَّلُ إنْ أُذعِرَتْ رِكابُها لم أُذْعَرِ

ثم نظر إلى ابن عُمرَ رضي الله عنهما، وقال: "أتُراني قد جَزيتُها؟"، قال: "لا، ولا بزَفرةٍ واحدةٍ"، وهذا يدلُّ على حقِّ الوالدة.

فضل الأم وتقديم حقِّها في الصحبة

والنبي عليه الصلاة والسلام قد بيَّن أن الجنة تحت أقدام الأمهات[6]، بل جاء في حديثٍ آخرَ: أن الجنة تحت أقدام الوالدين -وهذا يدل على عِظَم الأمر- وأن رجلًا جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يستأذنه في الجهاد في سبيل الله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ألك والدةٌ؟، قال: نعم، قال: اذهب فالزمها؛ فإن الجنة عند رجليها[7]. وفي روايةٍ: ألك والدان؟، قال: نعم، قال: الزمهما؛ فإن الجنة تحت أرجلهما[8].

الله أكبر! هذا حديثٌ ثَبَتَ عن النبي عليه الصلاة والسلام، والمعنى: أنَّ نصيبك من الجنة يأتيك من قِبَل الوالد أو الوالدة؛ كأنَّ الوالد قد قعد عليه، وكأن الوالدة قد قعدت على نصيبك الذي من الجنة، فيأتيك دخول الجنة عن طريق الوالد، وعن طريق رضا الوالد، وعن طريق التقرب إلى الله تعالى برضا الوالد والوالدة؛ فلذا عليك يا عبدَالله أن تعتنيَ بهذا الأمر.

ولا شكَّ أن النبي عليه الصلاة والسلام قد بيَّن أن الوالد له حقٌّ والوالدة لها ثلاثة حقوقٍ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام حينما سأله رجل: "مَن أحقُّ الناس بحُسْن الصُّحبة؟"، قال: أمُّك، ثم أمُّك، ثم أمُّك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك[9]، أو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.

فالأبُ له حقوقٌ، وحقٌ عظيم، لكنَّ حقَّ الأم أعظمُ؛ لأنها قامت بحَمْلِه، وقامت بوضعه، وقامت بإرضاعه؛ فامتازت عن الوالد بثلاثةِ أشياءَ: بالحَمْل وما يَحصُل لها فيه من المشقة، والوضع وما يحصل عنده من المشقة، والرضاعة وما يحصل فيها من المشقة، فامتازت بهذا. وليس معنى ذلك أن الوالد يُنقَص من حقه؛ بل له حقٌّ عظيمٌ، لكنَّ حقَّ الوالدة أعظمُ، كما بيَّن النبي صلوات الله وسلامه عليه.

الإحسان إلى أصدقاء الوالدين من تمام البِرِّ

ولا شكَّ أنَّ مِن ثمار البِرِّ بالوالدين: الإحسان إلى أصدقائهما، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنَّ مِن أَبَرِّ البِرِّ أن يَصِلَ الرجلُ أهلَ وُدِّ أبيه[10]. وهذا يدل على حقِّ الوالد، وأنه حتى أن تَصِلَ أهلَ وُدِّ أبيك بعد موته؛ فهذا يدل على البِرِّ وعلى الإحسان، وأن النبي عليه الصلاة والسلام بيَّن ذلك، صلوات الله وسلامه عليه.

ولا شكَّ أن أعظم الحقوق بعد حقِّ الله تعالى: حقُّ الوالدين، ثم حقُّ صلة الأرحام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ثم أدناك أدناك[11]، بعد حقِّ الوالدين.

اقتران عقوق الوالدين بالشرك بالله

وبعد أن بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أن مَن قام بحقِّ والديه فإنه يَحصُل على الثواب العظيم؛ قَرَنَ  عقوقهما بالشرك بالله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر؟، قلنا: "بلى يا رسول الله"، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين[12]

بعد الإشراك بالله عقوقُ الوالدين، وبعد حقِّ الله تعالى والقيام بحقِّ الله: حقُّ الوالدين؛ لأن الله تعالى هو الخالق الذي خلقك وجعل سببًا في وجودك في الدنيا، وهو أنه خلق الوالد والوالدة، فكان حقُّهما -كما يقول أهل العلم- مقرونًا بحقِّ الله تعالى، فمَن قصَّر في حقِّ الوالدين فقد قصَّر في حقِّ الله، وقد وقع في هذا الأمر العظيم.

فضل صلة الأرحام والتحذير من قطيعتها

تعريف الرَّحِم.. وبيان حقِّ الأقارب

صلة الأرحام كذلك، الرَّحِم هي: كل قرابةٍ تَقْرُب من الإنسان، سواءٌ أكان والده أو جده -وإن علا-، أو أبناءه -وإن نزلوا-، أو حواشيه: أخته، وأخواته، وأعمامه، وعماته، وخالاته، وأخواله، وغير ذلك من الأقارب؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ثم أدناك أدناك[13].

والله تعالى قد قال: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ... الآية [النساء:36]، فدلَّ على أن الأرحام الأقرباء لهم حقٌّ عظيمٌ بيَّنه الله تعالى في كتابه.

صلة الرَّحِم سببٌ لزيادة الرزق وطول العمر

وبيَّنه النبي صلوات الله وسلامه عليه بقوله: مَن سَرَّهُ أن يُبسَطَ له في رزقِه، وأن يُنْسَأَ له في أَثَرِه، فَلْيَصِلْ رَحِمَه[14]، وفي روايةٍ: مَن أَحَبَّ أن يُبْسَطَ له في رِزقه، ويُنْسَأَ له في أَثَرِه، فَلْيَصِلْ رَحِمَه[15]

مَن أَحبَّ أن يَزيد الله في ماله، ومن أَحبَّ أن يُطيل الله في عمره؛ فعليه أن يَصِلَ رَحِمَه، كما بيَّن النبي صلوات الله وسلامه عليه. وصِلة الرَّحِم وحُسن الجوار وحُسن الخلق يَعْمُرون الديار، ويزيدون في الأعمار، كما ثَبَتَ ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ فإن الأمر عظيمٌ.

التحذير من قطيعة الرَّحِم وسرعة عقوبتها

ولهذا جاء في الحديث: إنَّ الرحمة لا تنزل على قومٍ فيهم قاطعُ رَحِم[16]، هذا إذا تَمَالَؤُوا على ذلك ولم يقوموا بذلك. ولهذا ينبغي للعبد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ فإذا رأى بعض الناس يقطع أرحامه أو يَعُقُّ والده أو والديه، فعليه أن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.

وثَبَتَ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ما مِن ذنبٍ أجدرُ أن يُعَجِّلَ الله تعالى لصاحبه العقوبةَ في الدنيا، مع ما يَدَّخِرُ له في الآخرة؛ من البغي وقطيعةِ الرَّحِم[17]. هذا عقوبته عاجلةٌ، قد تأتيه العقوبة في الدنيا عاجلةً، كما بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا خطرٌ عظيمٌ على العبد.

فعليه أن يَتَّقِيَ الله، وعليه أن يَصِلَ رَحِمَه، وعليه أن يَعْلَم أن الله حينما خَلَقَ الخَلْق تعلَّقتِ الرَّحِمُ بالعرش، وقالت: هذا مقامُ العائذ بك من القطيعة. فقال: أما ترضَيْنَ أن أَصِلَ من وَصَلَكِ؟ وأَقْطِعَ من قَطَعَكِ؟ قالت: بلى يا رب. قال: فهو لكِ، بيَّن الله تعالى للرَّحِم أنَّ ذلك لها. قال رسول الله : فاقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22][18].

فدلَّ ذلك على أن صلة الرحم من أعظم القُربات إلى الله تعالى، وقطيعة الرحم من أعظم الجرائم ومن أعظم الذنوب التي يقع فيها الإنسان؛ لأن الإنسان قد يقع في هذا الذنب العظيم.

حقيقة الواصل والمُكافِئ.. والصبر على أذى الأقارب

وقد يَحصُل الإنسان على أذًى من أرحامه، وقد يَحصُل على قطيعةٍ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ليس الواصلُ بالمُكافِئ، ولكنَّ الواصلَ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُه وَصَلَها[19].

هذا هو الواصل في الحقيقة؛ فبعض الناس يقول: "فلانٌ لا يزورني، ولا يعتني بزيارتنا، ولا يتصل بنا"، فيَقْطَعَه! لا، هذا قَطَعٌ، لكن عليك أن تَصِلَ؛ فإن الصلة -في الحقيقة- هي أن تَصِلَ مَن قَطَعَكَ، وتُعطيَ مَن حَرَمَكَ، وتعفوَ عمَّن ظَلَمَكَ.

فكونك تَصِلُه وهو يَقْطَعُك، هذا أعظمُ في أجرك، أما كونُه يزورك ويُعطيك ويتصل بك ويُقابلك ويُسلِّم عليك، ثم أنت تعمل ذلك؛ هذه المكافأة. قال : ليس الواصلُ بالمكافئ، ولكنَّ الواصلَ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُه وَصَلَها، هذا يدل على عِظَم هذا الأمر.

وبعض الناس ربما يَحصُل على أذًى، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لرجلٍ حينما سأله فقال: "يا رسولَ الله، إنَّ لي قرابةً أَصِلُهم ويقطعوني، وأُحسِن إليهم ويُسيؤون إليَّ، وأحلُم عنهم ويجهلون عليَّ"، فقال: لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهُم المَلَّ، ولا يَزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمتَ على ذلك[20]، أو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.

هذا يدلُّ على أن الإنسان إذا وَصَلَ رَحِمَه -وإن جاروا وإن أساؤوا إليه- فهو يَحصُل على الثواب العظيم. لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهُم المَلَّ، والمَلُّ: هو الرماد الحارُّ، كأنما يُسِفُّهُم المَلَّ، ثم بيَّن له النبي عليه الصلاة والسلام أنه: لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهُم المَلَّ، ولا يَزال معك من الله ظهيرٌ عليهم، أي: عَوِينٌ يُعينك ما دمتَ على ذلك، ما دام أنك على ذلك وتَصِلُهم، فالله يُعينك  بإعانته ويوفِّقك ويسدِّدك؛ لأنه معك .

فلا يظنَّ الإنسان إذا أساء إليه أرحامُه أو أقرباؤه أنه قد خسر، لا، صِلْهم وأَبْشِر بالخير. خيرٌ له أن يُسيؤوا إليه، هو خيرٌ له -في الحقيقة- في الأجر والثواب والصلة والمد في العمر وبسط الرزق، خيرٌ له، لكن لو حصل الوئام وحصلت الرُّفقة وحصلت المحبة وحصلت المودة؛ كانت أحبَّ إلى الله تعالى ولا شكَّ.

أن الإنسان يُبادر حتى يكون هو خيرًا من أرحامه، حاوِلْ أن تكون أنت أحسنَ منهم في كل شيءٍ، خيرُ الأصحاب عند الله خيرُهم لصاحبه..، هذا الصاحب العادي، خيرُ الأصحاب عند الله خيرُهم لصاحبه، وخيرُ الجيران عند الله خيرُهم لجاره[21].

فإذا أردتَ أن تَعْلَم: هل أنت خيرٌ أم جارك؟ هل أنت خيرٌ أم قريبك؟ فانظر هل أنت أَحسنُ عنده وفي صِلَتِه وفي الإحسان إليه وفي إكرامه وفي السلام عليه؟ فأنت خيرٌ. أما إذا كان هو خيرًا، فهو خيرٌ عند الله تعالى. فعليك أن تُنافس في هذا الخير العظيم الذي حثَّ النبي عليه الصلاة والسلام عليه.

تنوُّع صور صلة الرحم واتساع أبوابها

ولا شكَّ أن أنواع الصلة كثيرةٌ:

الصلة -صلة الأرحام- قد تكون بالماء إذا كان يحتاج إلى الماء، وقد تكون بالإحسان، وببشاشة الوجه إذا لم يحتج إلى غير ذلك، وقد تكون بالزيارة، وقد تكون بالاتصال، وقد تكون بالشفاعة الحسنة، وقد تكون بإزالة الكُربات، وقد تكون بالمعاونة على أمور الدنيا، وقد تكون بإزالة الكُربة؛ على حسب الحاجة، وعلى حسب الحال، وعلى حسب ما يحتاج إليه القريب من قريبه، وقد تكون بالدعوة إلى الله، والإحسان، والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر؛ بعض الناس يسكت عن المُنكَر عند أقاربه، لا، فمن الإحسان إليهم ومن الصِلة العظيمة: أن تدعوَهم إلى الله، وأن تُعَلِّمَهم ما ينفعهم، وأن تردَّ عنهم ما يَضرُّهم، وهكذا.

هذه أنواع الصلة، بعض الناس يظن أن الصلة بالمال فقط، لا، أو بالزيارة والسهر إلى آخر الليل، لا، أو بغير ذلك من الأمور. الصلة على حسب الحاجة التي يحتاج إليها القريب؛ ابتغاء مرضاة الله تعالى.

ولا شكَّ أن العبد إذا قام بذلك فإنه يَحصُل على الثواب العظيم، ويَحصُل على ما أعدَّ الله تعالى لمَن وَصَلَ رَحِمَه؛ من السعادة، ومن التوفيق، ومن التمكين، ومن الزيادة في الرزق، ومن الحصول على الجنة، ومن النجاة من النار. لا شك أن الإنسان يحصل على هذا الثواب العظيم بصِلَة أرحامه وببِرِّ والديه؛ لأنه أطاع الله، وأطاع النبيَّ صلوات الله وسلامه عليه.

خطر هجر الأقارب.. وفضل المبادرة بالسلام والعفو

بعض الناس يَهجُر قريبه ويظنُّ أنه على خيرٍ، لا، إذا هَجَرَ قريبه فإن -في هذا الأمر- الأعمال تتوقف، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث: لا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يهجرَ أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان فيُعرِض هذا ويُعرِض هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام[22]. هذا المسلم، فكيف بالقريب؟!

وقال : تُعرَض الأعمال في كل يوم خميسٍ واثنينِ، فيَغفرُ اللهُ في ذلك اليوم لكل امرئٍ لا يُشرِك بالله شيئًا، إلا امرأً كانت بينه وبين أخيه شحناءُ، فيُقال: ارْكُوا هذين حتى يَصطلِحا، ارْكُوا هذين حتى يَصطلِحا[23]. هذا في المسلم العادي، فكيف بالرحم القريب؟!

وثَبَتَ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في الحديث الآخر: مَن هَجَرَ أخاه سَنَةً، فهو كسَفْكِ دَمِه[24]، كأنه قَتَلَه، هذا أمرُه عظيمٌ؛ فكثيرٌ من الناس يَهجُر أقاربه. هو إذا هجر المسلم العاديَّ فإن هذا ذنبٌ عظيمٌ، لكن هَجْرَ القريب كذلك يكون إثمُه أعظمَ ويكون جرمُه أكبرَ.

فالمسلم عليه أن يَتَّقِيَ الله، ويتقرَّب بصلة الأرحام إلى الله تعالى، يرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله، ويَبَرُّ والديه؛ طاعةً لله، وطاعةً للنبي عليه الصلاة والسلام، ورغبةً فيما عند الله تعالى، ورغبةً في ثوابه، ورغبةً في السعادة في الدنيا والآخرة؛ لأنه إذا عمل ذلك فقد تعامل مع الله، وقد قام بالواجب الذي أوجبه الله عليه، وقد سَلِم من الخَسارة في الدنيا والآخرة.

ولا شكَّ أن بعض الناس قد يَهجُر بعض الأقارب، وقد يقول: إني إذا سلَّمتُ عليه فإن الناس يقولون -أو يقول- إني ضعيفٌ، ما عندي قوةٌ، وما عندي شجاعةٌ!

لا، أنت تتعامل مع الله، ترجو ثواب الله، وتخشى عقابه؛ ولهذا ثَبَتَ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في الحديث الصحيح: ما نَقَصَتْ صدقةٌ من مالٍ، وما زاد اللهُ عبدًا بعفوٍّ إلا عِزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ لله إلا رَفَعَه الله[25].

والعفو مطلوبٌ، كما ثَبَتَ عن النبي عليه الصلاة والسلام في كظم الغيظ، قال: مَن كَظَمَ غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنفِذَه، دعاهُ اللهُ على رؤوس الخلائق يومَ القيامة، حتى يُخَيِّرَه اللهُ من الحُورِ العِينِ ما شاء[26].

الله أكبر! والله تعالى يقول: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133- 134]، 

فالله يُحبُّ المُحسِنين؛ يَكظِم الغيظ، ويعفو عن الناس، ويسامح الناس ويتعامل مهم؛ ابتغاءَ مرضاة الله تعالى، وابتغاءَ مرضاة النبي ، يرجو ثواب الله، ويرجو من الله الجنة، ويعوذ بالله من النار، ويرجو رفعة درجاته عند الله تعالى، ويرجو الخير في الدنيا والآخرة، ويُبشِر هو يتعامل مع الله الذي يقول للشيء: كن؛ فيكون: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

ولا أُحبُّ أن أُطيل عليكم، لكن هذه وصيةٌ لي أولًا ولإخواني.

وأسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أَحسَنَه.

أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا من الذين يقولون ويعملون، ونعوذ بالله ممَّن حذَّر الله من أعمالهم، أن يقول الإنسان ولا يعمل؛ فإن القول بغير عملٍ هذا مصيبةٌ عظيمةٌ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2- 3].

فعليك يا عبدالله أن تَتَّقِيَ الله، وأن تَصِلَ أرحامك، وأن تَبَرَّ والديك، ترجو بذلك ثواب الله. وأبشِرْ بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة إن أنت أطعت الله؛ لأن الله تعالى عنده خزائنُ كل شيءٍ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر:21].

أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يتقبَّل منِّي ومنكم ومن جميع المسلمين، وأن يوفِّقنا لما يُحبُّه ويرضاه، وأن يُطَهِّر قلوبنا، وأن يوفِّقنا وإياكم، وأن يتقبَّل منا ومنكم؛ إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. 

وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

وبارك الله فيكم، وجزاكم الله خيرًا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

واللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمدٍ.

^1 رواه البخاري: 7534، ومسلم: 85 واللفظ له.
^2 رواه الترمذي: 1899، وصحَّحه الألباني في "السلسلة الصحيحة": 516.
^3 رواه الترمذي: 1900 واللفظ له، وابن ماجه: 3663، وأحمد في "المسند": 27511، وصحَّحه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب": 2486.
^4 رواه مسلم: 2551.
^5 رواه مسلم: 1510.
^6 رواه القضاعي في "مسند الشهاب": 119، والديلمي في "الفردوس": 2611.
^7 رواه النسائي: 3104، والحاكم في "المستدرك": 2530 واللفظ له، والبيهقي في "الشُّعب": 7448، وصحَّحه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب": 2485.
^8 رواه الطبراني في "المعجم الكبير": 2202، وصحَّحه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب": 2485.
^9 رواه البخاري: 5971، ومسلم: 2548 واللفظ له.
^10 رواه مسلم: 2552.
^11, ^13 سبق تخريجه.
^12 رواه البخاري: 5976، ومسلم: 87.
^14 رواه البخاري: 5985، ومسلم: 2557 باختلافٍ يسيرٍ.
^15 رواه البخاري: 5986، ومسلم: 2557.
^16 رواه البخاري في "الأدب المفرد": 63.
^17 رواه أبو داود: 4902، والترمذي: 2511، وابن ماجه: 4211 ، وأحمد في "المسند": 20398، وصحَّحه الألباني في "السلسلة الصحيحة": 918.
^18 رواه البخاري: 5987.
^19 رواه البخاري: 5991.
^20 رواه مسلم: 2558.
^21 رواه الترمذي: 1944، وأحمد في "المسند": 6566، والطبراني في "المعجم الكبير": 41، والحاكم في "المستدرك": 1633، وصحَّحه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب": 2568.
^22 رواه البخاري: 6077، ومسلم: 2560 واللفظ له.
^23 رواه مسلم: 2565. ومعنى "ارْكُوا": أَخِّرُوا؛ يُنظَر: "غريب الحديث" للخطابي: 2/ 437.
^24 رواه أبو داود: 4915، وأحمد في "المسند": 17935، والطبراني في "المعجم الكبير": 780، والحاكم في "المستدرك": 7520، وصحَّحه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب": 2762.
^25 رواه مسلم: 2588.
^26 رواه أبو داود: 4777، والترمذي: 2493، وابن ماجه: 4186، وأحمد في "المسند": 15637، وحسَّنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب": 2753.