محاذاة النص
حجم الخط
جدول المحتويات
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده.
أمَّا بعد:
فقد كنتُ أسمع بسماحة العلَّامة الحَبْر، إمام أهل السُّنة والجماعة في الربع الأخير من القرن الرابع عشر والربع الأول من القرن الخامس عشر من الهجرة النبوية، عبدالعزيز بن عبدالله بن بازٍ رحمه الله تعالى، فكان في نفسي عظيمًا قبل أن أراه.
من مناقب الشيخ ابن باز رحمه الله
وعندما قدَّر الله عزَّ وجلَّ لي أن أنتقل إلى مدينة الرياض في عام 1399هـ، قابلتُه، فرأيتُه أعظم مما قيل فيه؛ فقد وجدتُه إمامًا في الحديث، إمامًا في معرفة الرجال ومصطلح الحديث، إمامًا في الفقه، إمامًا في العقيدة، إمامًا في القرآن الكريم وتفسيره، إمامًا في اللُّغة، إمامًا في الأنساب، إمامًا في الإفتاء والدعوة إلى الله على بصيرةٍ، إمامًا في الكرم والجود، والزهد في الدنيا، والتواضع، وحُسن الخُلق، والعطف على الفقراء والمساكين، والورع، والتقوى، والصبر، والتثبت وعدم العجلة في الأمور.
ووجدتُه إمامًا في الحكمة؛ فهو يضع الأمور مواضعها، وهذا في الحقيقة من توفيق الله له وإعانته وتسديده؛ فما أكرمه سبحانه، وما ألطفه بالعلماء المُخلِصين!
هَدْي ابن باز في الدعوة إلى الله
وقد استفدتُ من هذا العلَّامة كثيرًا، ولله الحمد؛ فقد كان يأمر بالدعوة إلى الله على بصيرةٍ بالأسلوب الحَسَن، وتعلَّمنا منه النصح لأئمة المسلمين، ويأمرنا بالدعاء لهم بالتوفيق والإعانة والتسديد، ويُطبِّق ذلك على نفسه؛ فيدعو لولاة الأمر في كل مُناسبةٍ. ووالله، لا أُحصي دعاءه لهم بالتوفيق وإصلاح البطانة، والإعانة والتسديد لكل خيرٍ، سواءٌ أكان ذلك في دروسه أو مُحاضراته أو توجيهاته.
فوالله، لا أُحصي عدد المرات التي بكى فيها من خشية الله تعالى، ومن ذلك: أنه أُذيع عنه في إذاعة لندن في عام 140هـ تقريبًا أنه يُكفِّر أهل المعاصي، فبَلَغَه هذا الخبر وهو يُلقي مُحاضرةً في الجامع الكبير (جامع الإمام تركي بن عبدالله رحمه الله)، فاستنكر هذا الخبر وردَّه، وتبرَّأ من هذا القول، وبكى، وتلا قول الله تعالى: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].
وكان يأمرنا كثيرًا، في دروسه ومُحاضراته واجتماعه بنا، بطلب العلم النافع والعناية بكتاب الله تعالى والسُّنة المطهَّرة، والعمل بما فيهما ابتغاء وجه الله تعالى، ويَحُثُّنا على الدعوة إلى الله في كل مَجمعٍ، مع العناية بما ينفع الناس. ويُحذِّرنا من التعرُّض للأمور التي تؤثِّر على سَيْر الدعوة، ويُذكِّرنا بأن درء المفاسد مُقدَّمٌ على جلب المصالح.
وكان رحمه الله وسطًا في كل أموره، صبورًا، ثابتًا على كل خيرٍ. ومن ذلك: كثرة أعماله التي لا يقوم بها أُمَّةٌ من الناس؛ فهو المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس البحوث العلمية والإفتاء، وله عضويةٌ في كثيرٍ من المجالس العلمية والإسلامية. ومن ذلك: رئاسة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وعضوية ورئاسة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، ورئاسة المجلس الأعلى العالمي للمساجد، ورئاسة المَجْمَع الفقهي بمكة التابع لرابطة العالم الإسلامي، وعضوية المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة النبوية، وعضوية الهيئة العليا للدعوة الإسلامية في المملكة.
وسماحة الشيخ قد وَقَفَ حياته كلها لله تعالى، سواءٌ أكان ذلك في هذه المجالس العلمية، أو في الدوام الرسمي، أو في أعمالٍ تَخُصُّ المسلمين في مكتب البيت وغيره، أو في الدروس العلمية التي مَنَّ الله عليه بها.
همة الشيخ في تدريس العلم
فإنه قد لازم التدريس في حلقاتٍ مُنتظمةٍ في الجامع الكبير، في أيام: الأحد، والاثنين، والأربعاء، والخميس؛ بعد صلاة الفجر. وفي جامع سارة في البديعة: ليلة الاثنين، وليلة الخميس. وفي مسجده: بعد عصر كلِّ يومٍ، وبين الأذان والإقامة لصلاة العشاء.
وكان يُعلِّق على المُحاضرات والندوات التي تُقام في الجامع الكبير ليلة كل جمعةٍ، ويُجيب على الأسئلة، ويُجيب دعوةَ مَن دعاه لإقامة المُحاضرات العامة واللقاءات المفتوحة، وحفلات الجمعيات لتحفيظ القرآن الكريم، والمشاركة في برنامج "نورٌ على الدرب" باستمرارٍ، وغيره من البرامج النافعة.
وكان يُدرِّس فى الحلقات المذكورة:
الكُتب الستة، ومُسند أحمد، ومُوطَّأ مالكٍ، وسُنن الدارمي، وشرح السُّنة للبغوي.
وتفسير ابن كثيرٍ.
وفي المصطلح: نُخبة الفكر، وشرح ألفية العراقي.
وفي العقيدة: الأصول الثلاثة، وكتاب التوحيد، والعقيدة الواسطية، والحموية، والطحاوية، وكتاب التوحيد لابن خُزيمة، وفتح المجيد.
وكتب ابن تيميةَ، ومنها: الفتاوى، والاستقامة.
وزاد المعاد، وإغاثة اللهفان، ومفتاح دار السعادة.
وكتب أئمة الدعوة النَّجْدِية، ومنها : الدُّرر السَّنِية في الأجوبة النَّجْدِية.
وفي الأحكام: بلوغ المرام، ومُنتقى الأخبار، وعُمدة الأحكام للمقدسي.
وفي الفقه: الروض المربع، والفرائض.
وفي التاريخ والسِّيَر: البداية والنهاية لابن كثيرٍ. وفي هذه الدروس يكون "القاموس المحيط" و"التقريب" مع الطلاب لمُراجعة اللغة والرجال.
بالإضافة إلى تفسير البغوي، بعد صلاة الجمعة في منزله، والجلوس للإجابة على الأسئلة ونفع الناس بين المغرب والعشاء في منزله في الليالي التي ليس له فيها دروسٌ.
وكان يشرح "رياض الصالحين" بعد صلاة العصر من كل يومٍ في مسجده، إلى غير ذلك من الدروس.
وكان أطول هذه الدروس: درس يوم الخميس في الجامع الكبير؛ فقد يمتد الدرس إلى أربع ساعاتٍ، والشيخ ثابتٌ على كرسيه!
والله ما رأيتُه يومًا في الدرس ناعسًا منذ تسعة عشر عامًا، حتى في الأيام التي مَرِضَ فيها قبل موته، بل كان مُنتبهًا مُستمعًا جَلْدًا.
وإذا غضب الشيخ على بعض طلابه؛ فمِن أعظم ما يقول: "سبِّحْ سبِّحْ"، أو "سبحان الله!"، أو يقول: "اللهم اهدنا فيمن هديت!"، وهذا يدلُّ على عظيم خُلُقه وعُلُو منزلته.
ولا يترك هذه الدروس إلا إذا سافر أو مَرِضَ مرضًا لا يستطيع معه أن يُصلِّي مع الجماعة، ولم يَحصُل له ذلك فيما أعلم إلا مرَّةً أو مرَّتين، ولله الحمد.
وهو مع هذه الأعمال العظيمة، يُجيب دعوة مَن دعاه، وخاصةً بعد صلاة العشاء، فيَحضُر ويكون مجلسه معمورًا بذكر الله تعالى، والتوجيه، والإجابة على الأسئلة؛ فينفع الناس.
وكان يغتنم الفرص في المجامع الصغيرة والكبيرة؛ فيَعِظ ويُذكِّر، ويُرغِّب ويُرهِّب، ويُرشِد طلابه ومَن حضر معه إلى إجابة الدعوة واغتنام الفرص في تعليم الناس الخير في هذه المجامع، وينصح كثيرًا بالاستفادة من بلوغ المرام في المجالس، والاستفادة من الوقت.
وسماحة الشيخ يزيد طلابه وتزيد دروسه كلما زاد عُمره، ويزيد كذلك نشاطه ورغبته في الخير، وهذا من فضل الله عليه، وكلٌّ يشهد بذلك، من طلابه ومَن يحضر معه ويشاهده.
وفي ضحى يوم الخميس الموافق 27 / 1 / 1420 هـ، بلغني خبر وفاته رحمه الله؛ فوَقَعَ بعد ذلك في نفسي قول أيوب السختياني رحمه الله: "إني أُخبَر بموت الرجل من أهل السُّنة، فكأنما أفقد بعض أعضائي!"، وقوله رحمه الله: "إن الذين يَتمنَّوْن موت أهل السُّنة يريدون أن يُطفئوا نور الله، والله مُتمٌّ نورَه، ولو كره الكافرون".
وقد أحسن القائل حين قال:
| اصبرْ لكلِّ مُصــيــبــةٍ وتجلَّدِ | واعلمْ بأن المرءَ غيرُ مُخلَّدِ |
| فإذا ذكرتَ مصيبةً تسلو بها | فاذكرْ مُصابك بالنبيِّ محمَّدِ[1] |
والحقيقة أن الشيخ لم يَمُتْ، فكَم علَّمَ من البشر! وكم تخرَّج على يديه من العلماء! وكم نفع الله به المسلمين في جميع أقطار الأرض!
وكم نصح لله ورسوله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم! وكم دفع الله به من الشرور! وكم أعان على نوائب الخير! وكم مِن عِلمٍ نَشَرَه ومسجدٍ بناه!
وكم من بيتٍ للأرامل اشتراه فسبله عليهم! وكم من داعيةٍ عيَّنه ثم أرسله إلى بلاده داعيًا ومُعلِّمًا! وكم من صدقةٍ للفقراء والمساكين تصدَّق بها سِرًّا وجهرًا!
وكم من شفاعةٍ حسنةٍ شفعها! وكم من دَيْنٍ للغارمين قضاه! وكم من سُنَّةٍ أُميت أحياها! وكم من بدعةٍ ظهرت فقمعها!
وهذا بعض ما عَرَفْتُه عن سماحة شيخنا منذ عشرين عامًا، وما خَفِيَ عليَّ أعظمُ ممَّا ظهر لي.
فهنيئًا له بهذه الأعمال المُباركة، وهنيئًا له بما سيَلْحَقُه من أعمالٍ جليلةٍ لا تُحصَى، إن شاء الله تعالى؛ لقول النبي : مَن دلَّ على خيرٍ، فله مِثْلُ أجرِ فاعله[2]، ولقوله : مَن سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً فعُمِل بها بعده، كُتب له مِثْلُ أجرِ مَن عَمِلَ بها، ولا يَنقُص من أجورهم شيءٌ[3].
وقد جاء في الحديث الحَسَن الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه: وإن العالِم لَيَسْتَغْفِرُ له مَن في السماوات ومَن في الأرض حتى الحيتان فى الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يُورِّثوا ديناراً ولا درهماً إنما وَرَّثوا العلم، فمَن أَخَذَه أَخَذَ بحظٍ وافرٍ[4].
فالشيخ لم يَمُتْ، فعِلمه منشورٌ، وتلاميذه موجودون، وكُتبه مسطورةٌ، وفتاواه مشهورةٌ، وذِكره سيبقى إن شاء الله إلى يوم القيامة، وعمله إن شاء الله لا ينقطع إلى يوم الدين.
فأسألُ اللهَ أن يرفع درجاته في الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يحشرنا وإيَّاه ووالدينا في زُمرة النبي محمَّدٍ ، مع الأنبياء والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمَّدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
كتبه
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
في شهر الله المُحرَّم 1420 هـ
نُشر هذا المقال في كتاب: "إمام العصر"، للدكتور/ ناصر مسفر الزهراني